فصل: من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة الجمعة:
قل جل ذكره: {بسم الله الرحمن الرحيم}
(بسم الله) اسم عزيز إذا تجلى لقلب عبد بوصف جماله تجمعت أفكاره على بساط جوده فلم يتفرق بسواه.
ومن تجلى لسره بنعت جلاله اندرجت جملته، واستهلك في وجوده فلم يشعر بكرائم دنياه ولا بعظائم عقباه.
وكم له من إنعام وكم له من إحسان وكم في أمثالهم: جرى الوادي فطم على القرى.
قوله جل ذكره: {يُسَّبِحُ لِلَّهِ مَا في السَّمَاواتِ وَمَا في الأَرْضِ}.
تَسْبَحُ في بحارِ توحيد الحقِّ أسرارُ أهلِ التحقيق، وبَحْرُهم بلا شاطئ؛ فبعد ما حصلوا فيها فلا خروجَ ولا براحَ، فحازت أيديهم جواهرَ التفريد فرصَّعوها في تاج العرفان كي يَلْبَسُوه يومَ اللِّقاء.
{الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعِزِيزِ الْحَكِيمِ}.
{الْمَلِكِ}: الملك المتفرِّد باستحقاق الجبروت.
{الْقُدُّوسِ}: المُنزَّهُ عن الدرك والوصول: فليس بيد الخَلْقِ إلاَّ عرفان الحقائق بنعت التعالى، والتأمل في شهود أفعاله، فأمَّا الوقوف على حقيقة أنِّيته- فقد جَلَّتْ الصمديةُ عن إشرافٍ عليه، أو طمعِ إدراكٍ في حالٍ رؤيته، أو جواز إحاطةٍ في العِلْم به.. فليس إلا قالة بلسانٍ مُسْتَنْطقٍ، وحالة بشهودِ حقِّ مستغرق.
وقُلْنَ بنا: نحن الأهِلَّة إنما ** نُضيءُ لِمَنْ يَسْرِي بليلٍ ولا نَقْرِي

قوله جل ذكره: {هُوَ الذي بَعَثَ في الأُمِّيِّنَ رَسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيِهمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكَتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لفي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
جرَّده كلِّ تكلُّفٍ لِتَعَلُّمٍ، وعن الاتصافِ بتطَلُّبٍ. ثم بَعَثَه فيهم وأظْهَرَ عليه من الأوصاف ما فاق الجميع.
فكما أيْتَمَهُ في الابتداء عن أبيه وامِّه، ثم آواه بلُطْفِه- وكان ذلك أبلغَ وأتمَّ- فإنه كذلك أفرده عن تكلُّفِه العلم- ولكن قال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} [النساء: 113].
وقال: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكَتَابُ وَلاَ الإِيَمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا} [الشورى: 52] ألبسه لباسَ العِزَّة، وتوجَّه بتاج الكرامة، وخَلَعَ عليه حُسْنَ التولِّي. لتكونَ آثارُ البشرية عنه مندرجة، وأنوارُ الحقائقِ عليه لائحة.
قوله جل ذكره: {وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}.
أي بَعَثَه في الأميين، وفي آخرين منهم وهم العجم، ومن يأتي.. إلى يوم القيامة؛ فهو صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى لناس كافَّة.
قوله جل ذكره: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
يقصد به هنا النبوة، يؤتيها {مَن يَشَاءُ}؛ وفي ذلك ردٌّ على مَنْ قال: إنها تُسْتَحَقُّ لكثرة طاعة الرسول- وردٌّ على من قال: إنها لتخصيصهم بطينتهم؛ فالفضل ما لا يكون مُسْتَحَقًّا، والاستحقاق فَرضٌ لا فضل.
ويقال: {فَضْلُ اللَّهِ} هنا هو التوفيق حتى يؤمِنوا به.
ويقال: هو الأُنْسُ بالله، والعبدُ يَنْسَى كلَّ شيء إذا وَجَدَ الأُنْسَ.
ويقال: قَطَعَ الأسباب، بالجملة في استحقاق الفضل، إذا أحاله على المشيئة.
قوله جل ذكره: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}: ثم لم يعملوا بها.
ويلْحَقُ بهؤلاء في الوعيد- من حيث الإشارة- الموسومون بالتقليد في أي معنى شِئتَ: في علم الأصول، وممَّا طريقُه أدلةُ العقول، وفي هذه الطريقة ممَّا طريقُه المنازلات.
قوله جل ذكره: {قُلْ يَأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُّمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنُّواْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيم بالظَّالِمِينَ}.
هذا من جلمة معجزاته صلى الله عليه وسلم، فَصَرْفُ قلوبِهم عن تمنِّي الموتِ إلى هذه المدة دَلَّ على صِدْقِه صلوات الله عليه.
ويقال: من علامات المحبة الاشتياقُ إلى المحبوب؛ فإذا كان لا يَصِلُ إلى لقائه إلا بالموتِ فتمنِّيه- لا محالة- شرطٌ، فأخبر أنهم لا يتمنونه أبدًا.. وكان كما اخبر.
قوله جل ذكره: {قُلْ إِنَّ المَوْتَ الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
الموتُ حَتْمٌ مَقْضِيٌّ. وفي الخبر: «مَنْ كَرَهَ لقاء الله كَرِهَ الله لقاءه» والموتُ جِسْرٌ والمقصدُ عند الله... ومَنْ لم يَعِشْ عفيفًا فَلْيَمُتْ ظريفًا.
قوله جل ذكره: {يَا أَيُهَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمَِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَواْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
أوْجَبَ السَّعْيَ يومَ الجمعة إذا نودِيَ لها، وأمَرَ بِتَركِ البيع.
ومنهم من يحمله على الظاهر؛ أي تَرْك المعاملة مع الخَلْقِ، ومنهم من يحمله عليه وعلى معنىً آخر: هو تَرْكُ الاشتغال بملاحظة الأعراض، والتناسي عن جميع الأغراض إلا معانقة الأمر؛ فمنهم مَنْ يسعى إلى ذِكْرِ الله، ومنهم من يسعى إلى الله، بل يسعون إلى ذِكْرِ الله جَهْرًا بِجَهْرٍ، ويسعون إلى الله تعالى سِرًّا بسِرٍّ.
قوله جل ذكره: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ في الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
إنما ينصرف مَنْ كان له جَمْعٌ يرجع إليه، أو شغْلٌ يقصده ويشتغل به- ولكن... مَنْ لا شُغْلَ له ولا مأوى.. فإلى أين يرجع؟ وإنما يقال: {وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ} إذا كان له أرَبٌ.. فأمَّا مَنْ سَكَنَ عن المطالبات، وكُفِيَ داءَ الطَّلَبِ.. فما لَه وابتغاء ما ليس يريده ولا هو في رِقِّه؟!
قوله جل ذكره: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةٍ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
مَنْ أسَرَتْهُ أخطارُ الأشياء استجاب لكلِّ داعٍ جَرَّه إليه لَهْوٌ أو حَمَلَه عليه سهوٌ ومَنْ مَلَكَه سلطانُ الحقيقة لم ينحرف عن الحضور، ولم يلتفت في حال الشهود. {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} وما عند الله للعُبَّاد والزُّهَّاد- غدًا- خيرٌ مما نالوه في الدنيا نقدًا. وما عند الله للعارفين- نقدًا- من واردات القلوب وبواده الحقيقية خيرٌ مما يُؤمَّل المستأنفِ في الدنيا والعُقْبى. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةِ الْجُمُعَةِ:
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
قال اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ}
قِيلَ: إنَّمَا سُمُّوا أُمِّيِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ الْكِتَابَةَ، وَأَرَادَ الْأَكْثَرَ الْأَعَمَّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الْقَلِيلُ مِمَّنْ يَكْتُبُ وَيَقرأ؛ وَقال النَّبِيُّ: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ، وَقال: إنَّا نَحْنُ أُمَّةٌ أُمَيَّةٌ لَا نَحْسُبُ وَلَا نَكْتُبُ».
وَقال تَعَالَى: {رَسُولًا مِنْهُمْ}؛ لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا، وَقال تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} وَقِيلَ إنَّمَا سُمِّيَ مَنْ لَا يَكْتُبُ أُمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ نُسِبَ إلَى حَالِ وِلَادَتِهِ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالِاسْتِفَادَةِ وَالتَّعَلُّمِ دُونَ الْحَالِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا الْمَوْلُودُ.
وَأَمَّا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ النُّبُوَّةِ فِي أُمِّيٍّ فَإِنَّهُ لِيُوَافِقَ مَا تَقَدَّمَتْ بِهِ بِالْبِشَارَةِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفَةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ تَوَهُّمِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْحِكْمَةِ بِالْكِتَابَةِ؛ فَهَذَانِ وَجْهَانِ مِنْ الدَّلَالَةِ فِي كَوْنِهِ أُمِّيًّا عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَمَعَ أَنَّ مُشَاكِلَةٌ لِحَالِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى مُسَاوَاتِهِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِيهِ، فَدَلَّ عَجْزُهُمْ عَمَّا أَتَى بِهِ عَلَى مُسَاوَاتِهِ لَهُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وقوله تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} الْآيَةَ.
رُوِيَ أَنَّهُ أَرَادَ الْيَهُودَ الَّذِينَ أُمِرُوا بِتَعَلُّمِ التَّوْرَاةِ وَالْعَمَلِ بِهَا فَتَعَلَّمُوهَا ثُمَّ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَشَبَّهَهُمْ اللَّهُ بِالْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ الْكُتُبَ وَهِيَ الْأَسْفَارُ؛ إذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا حَمَلُوهُ كَمَا لَا يَنْتَفِعُ الْحِمَارُ بِالْكُتُبِ الَّتِي حَمَلَهَا؛ وَهُوَ نَحْوُ قولهِ: {إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وَقولهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} إلَى قولهِ: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ}.
وقوله تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} إلَى قوله: {وَاَللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَخْبَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ إنْ تَمَنَّوْهُ مَاتُوا فَقَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا ادَّعَوْا مِنْ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ لَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَعَ الْمَوْتِ خَيْرٌ مِنْ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ فَوُجِدَ مَخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ فَهَذَا وَاضِحٌ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الْآيَةَ.
قال أَبُو بَكْرٍ يَفْعَلُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ جَمَاعَةً صَلَوَاتٍ كَمَا يَفْعَلُ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا هِيَ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الصَّلَاةُ الَّتِي إذَا فَعَلَهَا مَعَ الْإِمَامِ جُمُعَةً لَمْ يَلْزَمْهُ فِعْلُ الظُّهْرِ مَعَهَا وَهِيَ رَكْعَتَانِ بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى شَرَائِطِ الْجُمُعَة وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا النِّدَاءِ هُوَ الْأَذَانُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْآيَةِ كَيْفِيَّتَهُ وَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي رَأَى فِي الْمَنَامِ الْأَذَانَ وَرَآهُ عُمَرُ أَيْضًا كَمَا رَآهُ ابْنُ زَيْدٍ وَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا مَحْذُورَةَ وَذَكَرَ فِيهِ التَّرْجِيعَ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قوله تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ}.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ فِي قوله: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} قال: «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَقَدْ نُودِيَ لِلصَّلَاةِ».
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قال: «مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ يُؤَذِّنُ إذَا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ يُقِيمُ إذَا نَزَلَ ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ كَذَلِكَ ثُمَّ عُمَرُ كَذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَفَشَا النَّاسُ وَكَثُرُوا زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ إنْكَارَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ.
رَوَى وَكِيعٌ قال حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ الْغَازِ قال سَأَلْت نَافِعًا عَنْ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قال قال ابْنُ عُمَرَ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَإِنْ رَآهُ النَّاسُ حَسَنًا.
وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ الْحَسَنِ قال النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَاَلَّذِي قَبْلُ مُحْدَثٌ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْحٍ عَنْ عَطَاءٍ قال إنَّمَا كَانَ الْأَذَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيمَا مَضَى وَاحِدًا ثُمَّ الْإِقَامَةُ وَأَمَّا الْأَذَانُ الْأَوَّلُ الَّذِي يُؤَذَّنُ بِهِ الْآنَ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَجُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَهُوَ بَاطِلٌ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ.
وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ إنَّمَا ذَكَرُوا أَذَانًا وَاحِدًا إذَا قَعَدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ عَلَى مَا كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَأَمَّا وَقْتُ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَرَوَى أَنَسٌ وَجَابِرٌ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وسلمةُ بْنُ الْأَكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ.
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قال: صَلَّى بِنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ الْجُمُعَةَ ضُحًى ثُمَّ قال: إنَّمَا فَعَلْت ذَلِكَ مَخَافَةَ الْحَرِّ عَلَيْكُمْ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَلَّيَاهَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمَّا قال عَبْدُ اللَّهِ: إنِّي قَدَّمْتُ مَخَافَةَ الْحَرِّ عَلَيْكُمْ. عَلِمْنَا أَنَّهُ فَعَلَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَهُمْ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الْفُرُوضِ قَبْلَ أَوْقَاتِهَا لَا يَجُوزُ لِحَرٍّ وَلَا لِبَرْدٍ إذَا لَمْ يُوجَدْ أَسْبَابُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ أَوْقَاتِ الظُّهْرِ إلَى الضُّحَى، فَسَمَّاهُ الرَّاوِي ضُحًى؛ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، كَمَا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَسَحَّرُ: «تَعَالَ إلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ» فَسَمَّاهُ غَدَاءً لِقُرْبِهِ مِنْ الْغَدَاءِ، وَكَمَا قال حُذَيْفَةُ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ نَهَارًا وَالْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ النَّهَارِ وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ الْفَرْضِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، فَقال قَائِلُونَ: فَرْضُ الْوَقْتِ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ مِنْهَا. وَقال آخَرُونَ: فَرْضُ الْوَقْتِ الظُّهْرُ وَالْجُمُعَةُ بَدَلٌ مِنْهُ. اسْتَحَالَ أَنْ يَفْعَلَ الْبَدَلَ إلَّا فِي وَقْتٍ يَصِحُّ فِيهِ فِعْلُ الْمُبْدَلِ عَنْهُ وَهُوَ الظُّهْرُ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ النِّدَاءِ لَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
وقوله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قرأ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيٌّ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: {فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ}؛ قال عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ قرأت: {فَاسْعَوْا} لَسَعَيْت حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي قال أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ التَّفْسِيرَ لَا نَصَّ القراءة، كَمَا قال ابْنُ مَسْعُودٍ لِلْأَعْجَمِيِّ الَّذِي كَانَ يُلَقِّنُهُ: {إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} فَكَانَ يَقول طَعَامُ الْيَتِيمِ، فَلَمَّا أَعْيَاهُ قال لَهُ طَعَامُ الْفَاجِرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إفْهَامَهُ الْمَعْنَى وَقال الْحَسَنُ: لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ الْعَدْوَ، وَإِنَّمَا السَّعْيُ بِقَلْبِك وَنِيَّتِك.
وَقال عَطَاءٌ: السَّعْيُ الذَّهَابُ. وَقال عِكْرِمَةُ: السَّعْيُ الْعَمَلُ.
قال أَبُو عُبَيْدَةَ: فَاسْعَوْا أَجِيبُوا، وَلَيْسَ مِنْ الْعَدْوِ قال أَبُو بَكْرٍ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ هاهنا إخْلَاصُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ السَّعْيَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ سُرْعَةَ الْمَشْيِ، مِنْهَا قولهُ: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا}، {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى}، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَمَلَ وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَلَكِنْ ائْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ يَمْشِي إلَى الْجُمُعَةِ عَلَى هَيْنَتِهِ.
فَصْلٌ وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجُوزُ فِي الْبَوَادِي وَمَنَاهِلِ الْأَعْرَابِ، فَقال أَصْحَابُنَا: هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَمْصَارِ وَلَا تَصِحُّ فِي السَّوَادِ، وَهُوَ قول الثَّوْرِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَقال مَالِكٌ: تَصِحُّ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ فِيهَا بُيُوتٌ مُتَّصِلَةٌ وَأَسْوَاقٌ مُتَّصِلَةٌ، يُقَدِّمُونَ رَجُلًا يَخْطُبُ وَيُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إمَامٌ.
وَقال الْأَوْزَاعِيُّ: لَا جُمُعَةَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ. وَقال الشَّافِعِيُّ: إذَا كَانَتْ قَرْيَةٌ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ وَالْمَنَازِلِ وَكَانَ أَهْلُهَا لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا إلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا حُرًّا بَالِغًا غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ. قال أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ»، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ الْجُمُعَةُ جَائِزَةً فِي الْقُرَى لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا كَوُرُودِهِ فِي فِعْلِهَا فِي الْأَمْصَارِ؛ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
وَأَيْضًا لَمَا اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِهَا فِي الْبَوَادِي؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمِصْرٍ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي السَّوَادِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِلْحَسَنِ: إنَّ الْحَجَّاجَ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِالْأَهْوَازِ فَقال: لَعَنَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ يَتْرُكُ الْجُمُعَةَ فِي الْأَمْصَارِ وَيُقِيمُهَا فِي حَلَاقِيمِ الْبِلَادِ فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْجُمُعَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ، وَأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ بِالطَّفِّ فَرُبَّمَا جَمَعَ وَرُبَّمَا لَمْ يُجْمِعْ؛ وَقِيلَ مِنْ الطَّفِّ إلَى الْبَصْرَةِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ فَرَاسِخَ وَأَقَلُّ مِنْ مَسِيرَةِ نِصْفِ يَوْمٍ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا هَذَا كَلَامٌ فِيمَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْمِصْرِ، فَرَأَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ الْمِصْرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ وَتَجِبُ عَلَى أَهْلِهِ الْجُمُعَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ الْجُمُعَةَ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ أَوْ مَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَمْصَارِ.
وَالْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ نَقَلَتهَا الْأُمَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قولا وَعَمَلًا؛ وَقال عُمَرُ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم؛ وَإِنَّمَا قَصُرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ.
بَابُ وُجُوبِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ قال اللَّهُ تعالى: {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ السَّعْيِ إلَى الذِّكْرِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ ذِكْرًا وَاجِبًا يَجِبُ السَّعْيُ إلَيْهِ وَقال ابْنُ الْمُسَيِّبِ: {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مَوْعِظَةَ الْإِمَامِ. وَقال عُمَرُ فِي الْحديث الَّذِي قَدَّمْنَا: إنَّمَا قَصُرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ النَّاسَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتْ الصُّحُفُ وَاسْتَمَعُوا الْخُطْبَةَ، فَالْمُهَجِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَاَلَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي شَاةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً» وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هاهنا هُوَ الْخُطْبَةُ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ هِيَ الَّتِي تَلِي النِّدَاءَ، وَقَدْ أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْخُطْبَةُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْطُبْ صَلَّى أَرْبَعًا، مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَطَاوُسٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ قول فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ وَأَدْرَكَ الصَّلَاةَ أَوْ بَعْضَهَا، فَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي الرَّجُلِ تَفُوتُهُ الْخُطْبَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ أَرْبَعًا. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ قالوا: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى أَرْبَعًا. وَقال ابْنُ عَوْنٍ: ذُكِرَ لَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قول أَهْلِ مَكَّةَ إذَا لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى أَرْبَعًا، قال: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ.
قال أَبُو بَكْرٍ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَالسَّلَفِ مَا خَلَا عَطَاءً وَمَنْ ذَكَرْنَا قولهُ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَذَهَبَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ جَاءَ فَأَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْهُ فَوَاتُ الرَّكْعَةِ مَنْ فَعَلَ الْجُمُعَةَ كَانَتْ الْخُطْبَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى بِذَلِكَ.
وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ أَضَافَ إلَيْهَا ثَلَاثًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَاتَتْهُ الْخُطْبَةُ وَرَكْعَةٌ مِنْهَا وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ: إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى، وَمَنْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَتَانِ يُصَلِّي أَرْبَعًا» وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ، فَرَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قال: مَنْ أَدْرَكَ التَّشَهُّدَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قال: إذَا دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ جَالِسٌ فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قالوا: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الرُّكُوعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى أَرْبَعًا. وَقال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إذَا أَدْرَكَهُمْ فِي التَّشَهُّدِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَقال زُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: يُصَلِّي أَرْبَعًا. وَذَكَرَ الطحاوي عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال: يُصَلِّي أَرْبَعًا، يَقْعُدُ فِي الثِّنْتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَمَرْته أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا.
وَقال مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: يُصَلِّي أَرْبَعًا. إلَّا أَنَّ مَالِكًا قال: إذَا قَامَ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً أُخْرَى. وَقال الثَّوْرِيُّ: إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ جَالِسًا لَمْ يُسَلِّمْ صَلَّى أَرْبَعًا يَنْوِي الظُّهْرَ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَفْتِحَ الصَّلَاةَ. وَقال عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي التَّشَهُّدِ قَعَدَ بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ فَكَبَّرَ وَدَخَلَ فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ، وَإِنْ قَعَدَ مَعَ الْإِمَامِ بِتَكْبِيرٍ سَلَّمَ إذَا فَرَغَ الْإِمَامُ ثُمَّ قَامَ فَكَبَّرَ لِلظُّهْرِ. وَقال اللَّيْثُ: إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعِنْدَهُ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ خَطَبَ فَإِنَّمَا يُصَلِّي إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى ثُمَّ يُسَلِّمُ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ النَّاسُ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَخْطُبْ وَأَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ.
قال أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَجَبَ عَلَى مُدْرِكِ الْإِمَامِ فِي تَشَهُّدِ الْجُمُعَةِ اتِّبَاعُهُ فِيهِ وَالْقُعُودُ مَعَهُ، وَلَمَّا كَانَ مُدْرِكًا لِهَذَا الْجُزْءِ مِنْ الصَّلَاةِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتِ مِنْهَا بِظَاهِرِ قولهِ عَلَيْهِ السلام «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا»، وَالْفَائِتُ مِنْهَا هِيَ الْجُمُعَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مُدْرِكُ الْمُقِيمِ فِي التَّشَهُّدِ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ إذَا كَانَ مُسَافِرًا وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مُدْرِكِهِ فِي التَّحْرِيمَةِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْجُمُعَةِ؛ إذْ الدُّخُولُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ بِغَيْرِ الْفَرْضِ.
فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى» وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: «وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا» قِيلَ لَهُ: أَصْلُ الْحديث: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ»، فَقال الزُّهْرِيُّ وَهُوَ رَاوِي الْحديث: مَا أَرَى الْجُمُعَةَ إلَّا مِنْ الصَّلَاةِ؛ فَذِكْرُ الْجُمُعَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ؛ وَالْحديث إنَّمَا يَدُورُ عَلَى الزُّهْرِيِّ، مَرَّةً يَرْوِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَرَّةً عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ قال حِينَ رَوَى الْحديث فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ: أَرَى الْجُمُعَةَ مِنْ الصَّلَاةِ؛ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصَّ فِي الْجُمُعَةِ لَمَا قال: مَا أَرَى الْجُمُعَةَ إلَّا مِنْ الصَّلَاةِ وَعَلَى أَنَّ قولهُ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ» لَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً صَلَّى أَرْبَعًا، كَذَلِكَ قولهُ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَلْيُضِفْ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى» وَأَمَّا مَا رُوِيَ: (وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا) فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَدْرَجَهُ فِي الْحديث، وَلَوْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعْنَاهُ: وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا وَقَدْ سَلَّمَ الْإِمَامُ.
وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ أَنَّ وُجُوبَ الْجُمُعَةِ مَخْصُوصٌ بِالْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْمُقِيمِينَ دُونَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ وَالْعَاجِزِينَ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «أَرْبَعَةٌ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ: الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ».
وَأَمَّا الْأَعْمَى فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قال: لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ. وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْعَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحُضُورِ بِنَفْسِهِ إلَّا بِغَيْرِهِ، وَقال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ. وَفَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقْعَدِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَهْتَدِي الطَّرِيقَ فَإِذَا هُدِيَ سَعَى بِنَفْسِهِ، وَالْمُقْعَدُ لَا يُمْكِنُهُ السَّعْيُ بِنَفْسِهِ وَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَحْمِلُهُ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْأَعْمَى وَبَيْنَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَعْرِفُ وَهُوَ بَصِيرٌ إذَا أُرْشِدَ اهْتَدَى بِنَفْسِهِ وَالْأَعْمَى لَا يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ بِالْإِرْشَادِ وَالدَّلَالَةِ، وَيُحْتَجُّ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِحديث أَبِي رَزِينٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقال: إنِّي ضَرِيرٌ شَاسِعُ الدَّارِ وَلَيْسَ لِي قَائِدٌ يُلَازِمُنِي أَفَلِي رُخْصَةٌ أَنْ لَا آتِيَ الْمَسْجِدَ؟ فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا» وَفِي خَبَرِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ نَحْوُهُ، فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتَسْمَعُ الْإِقَامَةَ» قال: نَعَمْ، قال: «فَأْتِهَا».
وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ مَنْ تَصِحُّ بِهِ الْجُمُعَةُ مِنْ الْمَأْمُومِينَ، فَقال أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَاللَّيْثُ: ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ. وَبِهِ قال الثَّوْرِيُّ وَقال الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إنْ لَمْ يَحْضُرْ الْإِمَامُ إلَّا رِجْلٌ وَاحِدٌ فَخَطَبَ عَلَيْهِ وَصَلَّى بِهِ أَجْزَأَهُمَا. وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَمْ يَحُدَّ فِيهِ شَيْئًا، وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ أَرْبَعِينَ رَجُلًا.
قال أَبُو بَكْرٍ: رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدِمَ عِيرٌ فَنَفَرَ النَّاسُ إلَيْهِ وَبَقِيَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا}، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتْرُكْ الْجُمُعَةَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ رُجُوعَ الْقَوْمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَّى بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَنَقَلَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ صَلَّاهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَبَطَلَ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ الْأَرْبَعِينَ وَأَيْضًا الثَّلَاثَةُ جَمْعٌ صَحِيحٌ فَهِيَ كَالْأَرْبَعِينَ لَاتِّفَاقِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا جَمْعًا صَحِيحًا.
وَمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ جَمْعًا صَحِيحًا، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَإِسْقَاطُ اعْتِبَارِ مَا زَادَ.
وقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} قال أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ، فَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ الْبَيْعَ يَحْرُمُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ. وَقال مُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ: يَحْرُمُ بِالنِّدَاءِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ اعْتِبَارَ الْوَقْتِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى،؛ إذْ كَانَ عَلَيْهِمْ الْحُضُورُ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَلَا يُسْقِطُ ذَلِكَ عَنْهُمْ تَأْخِيرَ النِّدَاءِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلنِّدَاءِ قَبْلَ الزَّوَالِ مَعْنًى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ الَّذِي بَعْدَ الزَّوَالِ إنَّمَا هُوَ بَعْدَمَا قَدْ وَجَبَ إتْيَانُ الصَّلَاةِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ عِنْدَ نِدَاءِ الصَّلَاةِ، فَقال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: الْبَيْعُ يَقَعُ مَعَ النَّهْيِ. وَقال مَالِكٌ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ.
قال أَبُو بَكْرٍ: قال اللَّهُ تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ» وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ لِوُقُوعِهِ عَنْ تَرَاضٍ.
فَإِنْ قِيلَ: قال اللَّهُ تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} قِيلَ لَهُ: نَسْتَعْمِلُهُمَا فَنَقول: يَقَعُ مَحْظُورًا عَلَيْهِ عَقْدُ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِقولهِ: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَيَقَعُ الْمِلْكُ بِحُكْمِ الْآيَةِ الْأُخْرَى وَالْخَبَرُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ؛ وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ النَّهْيُ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الِاشْتِغَالُ عَنْ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ وُقُوعَهُ وَصِحَّتَهُ، كَالْبَيْعِ فِي آخِرِ وَقْتِ صَلَاةٍ يُخَافُ فَوْتَهَا إنْ اشْتَغَلَ بِهِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّتَهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ تَعَلَّقَ بِاشْتِغَالِهِ عَنْ الصَّلَاةِ وَأَيْضًا هُوَ مِثْلُ تَلَقِّي الْجَلَبِ وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ وَالْبَيْعُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَحْوِهَا كَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقولوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَك، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقولوا: لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْك» وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُبَاعَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنْ يُشْتَرَى فِيهِ وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ أَوْ تُنْشَدَ فِيهِ الْأَشْعَارُ، وَنَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ» وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَخُصُومَتَكُمْ وَجَمِّرُوهَا يَوْمَ جُمَعِكُمْ وَاجْعَلُوا مَطَاهِرَكُمْ عَلَى أَبْوَابِهَا»، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ بَاعَ فِيهِ جَازَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ تَعَلَّقَ بِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْعَقْدِ.
بَابُ السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قال أَصْحَابُنَا: لَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ مِصْرِهِ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ. حَكَاهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ بِلَا خِلَافٍ، وَقال مَالِكٌ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَبَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَافِرَ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ. وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ يَكْرَهُونَ السَّفَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أرطاة عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَجَّهَ ابْنَ رَوَاحَةَ وَجَعْفَرًا وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَتَخَلَّفَ ابْنُ رَوَاحَةَ، فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَّفَك؟» قال: الْجُمُعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُجَمِّعُ ثُمَّ أَرُوحُ، فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، قال: فَرَاحَ مُنْطَلِقًا وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قال: لَا تُحْبَسُ الْجُمُعَةُ عَنْ سَفَرٍ. وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُ، وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَ بِالْعَقِيقِ عَلَى رَأْسِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَأَتَى ابْنُ عُمَرَ غَدَاةَ الْجُمُعَةِ فَأُخْبِرَ بِشَكْوَاهُ، فَانْطَلَقَ إلَيْهِ وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ وَقال عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: خَرَجَ سَالِمٌ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَدْرِ النَّهَارِ وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ قالا: لَا بَأْسَ بِالسَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَا لَمْ تَحْضُرْ الْجُمُعَةُ. وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ النَّخَعِيِّ قال: إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ السَّفَرَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَلْيُسَافِرْ غَدْوَةً إلَى أَنْ يَرْتَفِعَ النَّهَارُ فَإِنْ أَقَامَ إلَى الْعَشِيِّ فَلَا يَخْرُجُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عائشة قالت: إذَا أَدْرَكَتْك لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ فَلَا تَخْرُجْ حَتَّى تُجَمِّعَ.
فَهَذَا مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَإِبْرَاهِيمَ، قال اللَّهُ تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} فَأَبَاحَ السَّفَرَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَلَمْ يُخَصِّصْهُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا وَاضِحٌ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَإِبَاحَةِ السَّفَرِ فِيهِمَا، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِحُضُورِهَا لِقولهِ تعالى: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْخِطَابَ بِذَلِكَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَى الْمُسَافِرِينَ، وَفَرْضُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَإِذَا خَرَجَ وَصَارَ مُسَافِرًا فِي آخِرِ الْوَقْتِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ.
وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}؛ قال الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ إذْنٌ وَرُخْصَةٌ.
قال أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا ذُكِرَ بَعْدَ الْحَظْرِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ إبَاحَةٌ وَإِطْلَاقٌ مِنْ حَظْرٍ، كَقولهِ تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وَقِيلَ: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بِعَمَلِ الطَّاعَةِ وَالدُّعَاءِ لِلَّهِ، وَقِيلَ: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا؛ وَهُوَ إبَاحَةٌ أَيْضًا وَهُوَ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ حَظَرَ الْبَيْعَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ كَمَا أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ.
قال أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ قولهِ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} إبَاحَةٌ لِلْبَيْعِ الَّذِي حُظِرَ بَدِيًّا، وَقال اللَّهُ تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَكَانَ الْمَعْنَى: يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بِالتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى إبَاحَةِ السَّفَرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ قال: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}.
وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا}، رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ قالا: رَأَوْا عِيرَ طَعَامٍ قَدِمَتْ الْمَدِينَةَ وَقَدْ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ، وَقال جَابِرٌ: اللَّهْوُ الْمَزَامِيرُ. وَقال مُجَاهِدٌ: الطَّبْلُ. {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} مِنْ الثَّوَابِ عَلَى سَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَحُضُورِ الْمَوْعِظَةِ. {خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ} قوله تعالى: {وَتَرَكُوك قَائِمًا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ قَائِمَةٌ؛ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَلْقَمَةَ أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا؟ فَقال: أَلَسْت تَقرأ القرآن {وَتَرَكُوك قَائِمًا}؟.
وَرَوَى حُصَيْنٌ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ قال: قَدِمَتْ عِيرٌ مِنْ الشَّامِّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ يَخْطُبُ، فَانْصَرَفَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ وَبَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَتَرَكُوك قَائِمًا}.
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ، فَجَاءَتْ عِيرٌ فَخَرَجَ النَّاسُ إلَيْهَا حَتَّى بَقِيَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
قال أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ ابْنُ فَضِيلٍ وَابْنُ إدْرِيسَ فِي الْحديث الْأَوَّلِ عَنْ حُصَيْنٍ، فَذَكَرَ ابْنُ فَضِيلٍ أَنَّهُ قال: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» وَذَكَرَ ابْنُ إدْرِيسَ أَنَّهُ قال: كَانَ النَّبِيُّ يَخْطُبُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقولهِ: (نُصَلِّي) أَنَّهُمْ قَدْ حَضَرُوا لِلصَّلَاةِ مُنْتَظِرِينَ لَهَا؛ لِأَنَّ مَنْ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ فِي قوله تعالى: {انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِمًا} قال: إنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَصَابَهُمْ جُوعٌ وَغَلَاءُ سِعْرٍ، فَقَدِمَتْ عِيرٌ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَسَمِعُوا بِهَا فَخَرَجُوا إلَيْهَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ كَمَا هُوَ، قال اللَّهُ تعالى: {وَتَرَكُوك قَائِمًا} قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ اتَّبَعَ آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ لَالْتَهَبَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَارًا». آخِرَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ. اهـ.